● تعتبر ثلاثية "
توماس مان " "
يوسف وإخوته " عملاً خالداً يتشابه كثيراً مع ما ورد فى القرآن الكريم وبالتحديد فى سورة "
يوسف" بتخليد عظمة مصر كنانة الله فى أرضه ، والتى زارها الأديب مرتين لينهل من تراثها وليعود بالمادة الوفيرة التى حملها من على أرض الواقع ، وبما أن الأدب يعتبر بمثابة مرآة العصر فقد انعكست صورة مصر المضيئة التى عايشها "
توماس مان " بنفسه فى ثلاثيته محل البحث "
يوسف وإخوته" ، كما شهد فى ذات الوقت الجهود المضنية للألمان من أجل إعادة بناء تراثهم وثقافتهم فى مصر ، بعد أن محيث على يد الإنجليز بعد الحرب العالمية الأولى. كما أنني لا أبالغ حينما أؤكد أن هذا العمل الأدبي الرفيع
"يوسف وإخوته" يمثل بالنسبة لي نصباً تذكارياً خالداً يقدمه
"توماس مان" في هذه الثلاثية ، على غرار ما ورد بالقرآن الكريم بتخليد عبقرية المكان ، مصر أرض الكنانة، والتي زارها الأديب مرتين، الزيارة الأولى في عام 1925، والثانية 1930، لينهل من تراثها وليعود بالمادة العلمية الوفيرة التي حملها من دار الكتب المصرية .
● من الملاحظ أن الأديب العالمى "
توماس مان" اعتمد فى ثلاثيته محل البحث "
يوسف وإخوته" على المأثورات الإنجيلية والقرآنية وبالتحديد على سورة "
يوسف" من القرآن الكريم ، حيث تناول قصة "يوسف وأبيه يعقوب" فى شكل روائى ، هذا الجانب الإسلامى سيتم - بمشيئة الله - تناوله بصورة نقدية ومن وجهة نظر إسلامية.
● كما يعرض"
توماس مان" لصورة مصر المعطاءة وصاحبة اليد الطولى من خلال شيم أهلها وكرمهم مقارناً ذلك بما قدمته ليوسف عندما إحتضنته وأحسنت رعايته والإهتمام به ، بداية من سنوات تقلده الموقع الأول ، المؤتمن على خزائن الأرض والمسئول عن إطعام شعب مصر ، وبه أصبحت مصر من أول الدول التى طبقت مبدأ التكافل الإجتماعى .
● ومما يجب الإشارة إليه فى هذا الصدد أن "
توماس مان" لم يأت مصر فقط ، بل يوجد إحتمال بأنه قرأ تفسيرات كثيرة للقرآن الكريم وبخاصة قرأ عن سورة "
يوسف" ومن أهم التفسيرات التى قرأها تفسير الإمام القرطبى الذى أتى من قرطبة وعاش فترة فى المنيا ودفن أيضاً هناك ،هذه النقطة سأحاول- بإذن الله- الإجابة عليها في هذا البحث.
● ومما ينسب إلى ذلك أيضاً هذا التوضيح الذى قدمه الإمام القرطبى فى تفسيره العظيم "
الجامع لأحكام القرآن" لكل ما عرض له الأديب "
توماس مان" حيث وصف قدوم آل يعقوب (عليه السلام ) إلى مصر بناءاً على دعوة ابنه يوسف وفى رفقته ست وثمانين من أهل بيته واستقبال "
يوسف" المهيب لهم وبحضور أربعة آلاف من الأمراء ودعوته لهم بالمكوث بديار مصر ، إلى أن يخرجوا منها مع سيدنا يوسف وقد بلغ عددهم ستمائة ألف ، وتنتهى حياة يوسف العظيم متمنياً لنفسه الموت على الإسلام بعد أن تكاملت عليه النعم وجمع له شمل الأهل وليتوفاه الله طاهراً وليدفن فى نيل مصر الخالد لجلب الخير والبركة والنماء لأهل مصر وحتى تم نقل رفاته على يد سيدنا موسى (عليه السلام) مع قومه إلى بيت المقدس .
● أثناء قراءتي لثلاثية
توماس مان "
يوسف وإخوته" وبالأحرى أثنـــــاء قراءتي للجزء الخـاص بتاريــخ آل يعقوب والذى ورد ذكره فى سورة يوسف فى القرآن الكريم ، وجدت لزاماً علىّ أن أقوم بعمل دراسة مقارنة ما بين عرض الأديب الألمانى "
توماس مان " لقصة آل يعقوب فى ثلاثيته الشهيرة "
يوسف وإخوته" بما ورد فى القرآن الكريم وذلك لبيان مدى صحة أحداث هذه الروايه .
● انطلاقا من وجهة النظرالإسلامية أود أن أقول وذلك - بصفتي مسلم- أن قصة يوسف وردت فى القرآن الكريم لبيان أن الدين كله أساسه واحد ومن عند الله يشترك فيه جميع الأنبياء فى جميع الأديان، كما أن إثبات الوحي والرسالة غرض أساسي من ورود قصة يوسف فى القرآن ، لأن محمداً (صلى الله عليه وسلم) لم يكن كاتباً ولا قارئا ولا عرف عنه أنه جلس إلي علماء اليهود والنصارى وقد جاءت قصة يوسف بكل دقة وإفاضة
"إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ، نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين" (سورة يوسف - آية 2- 3 ).● نعرض في عملنا هذا لأول الغيث الذي قدمه
"توماس مان" عن أحسن القصص وأدهشها مصداقا لما جاء في سورة يوسف من القرآن الكريم، وأنه لزاما علينا أن نتمعن بعمق في
"ينبوع الماضى وحتي يتسني لنا سبر أعماقه بشيء من التؤدة والصبر" ، وذلك بداية من العرض الموجز لقصة سيدنا يعقوب مع أبنائه وما حدث منهم تجاه ابنه المحبب إليه "يوسف" ، وقيامهم بالتخلص منه برميه في الجب وإنقاذه بعد ذلك من قبل بعض التجار المارة ليأخذوه معهم لبيعه كخادم في مصر ويشتريه عزيز مصر، ويرتفع شأنه حتى يصل إلي أن يكون أمينا علي خزائن مصر، ويطلق عليه لقب "الطاعم" لشعب مصر وما جاورها من شعوب أخري وحتي يعيش يوسف نهاية حياته متسامحا في تجاوزه عن سيئات إخوته ودعوتهم مع أبيه لكى يعيشوا معه في مصر، ويلتئم شمل الأسرة.
● كما نعرض في هذا العمل بداية قصة
"يوسف وإخوته" من منطلق النص القرآني الذي يمثل بالنسبة لنا المعيار الفائق والحقيقي بغض النظرعن أية توجهات أخري اجتهد أصحابها وأصابوا ، أو اجتهدوا وأخطأوا. القصة تبدأ كما جاءت في النص القرآني من الآية 3-20
(نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين 
إذ قال يوسف لأبيه ياأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قال يابني لا تقصص رؤياك علي إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين ...............إلي آخر الآيات ) ● استهل توماس مان المجلد الأول من ثلاثيته
( تاريخ آل يعقوب) بالمقولة الآتيه:-
"كم هو عميق ينبوع الماضي ، فهل للمرء أن يسعى لسد أعماقه في تؤدة وصبر"ويؤكد ذلك أيضاً أثناء إقامته فى مصر، وأثناء زيارته لمدينة الأقصر، ويسجل في الكتاب التذكارى لفندق
"ونتر بالاس" الذي كان يقيم فيه بما يلى:
"كثيراً ما تروى الحكايات والأساطير عن الأطفال المحظوظين وعن المروج السحرية الخضراء التى تنفجر من أعماقها ينابيع ماضي البشرية، التى عاشت في المكان وعلى الأرض التى سكنها الإنسان وسعى في إعمارها على مدى آلاف من السنين، الأمر الذي يعطينا الضوء لرسم لوحة بديعة لهذه الأرض وهى التى اعتبرها مهد حضارة الإنسان الأول والتى على الإنسان أن يسبرأعماق ينابيعها".● يواصل
"توماس مان" تعظيم هذه البداية بإبراز لسمات العقل والحكمة التي عاشتها مصر فى هذه الحقبة ولتنشأ على أرضها أعظم حضارة اتسمت بالاستمرارية ، ويدعم كل ذلك بنصوص من التوراة (العهد القديم) للمباركة الربانية التي منحها سيدنا يعقوب وهو يحتضر لابنه يوسف برعاية السماوات والأرض له ، الأمر الذي أثار الحقد والحسد والغيرة في قلوب إخوته، وتحاك المؤامرة من هؤلاء الأخوة ويقومون بإلقاء أخيهم في الجب ، ويعودون إلى أبيهم بفرية افتراس الذئب له، يستعين توماس مان كأديب عالمي بكم عظيم من مختلف المصادر لينسج من البداية سجادة أبدع نسجها من خلال مصادر يهودية ومسيحية ويونانية وإسلامية.
● لم يكن من الممكن
لتوماس مان أن يشرع فى تقديم هذه الصورة الفائقة إلا بعد زيارته لموقع الأحداث ، وتجيء زيارته الأولى لمصرعام 1925 ، والثانية عام 1935 بناء على دعوة قدمت له من مؤسسة
"اشتيميس" للرحلات البحرية ، وكانت مصر فى هذه الفترة محط أنظار العديد من العلماء والأدباء الذين يريدون معرفة الكثيرعن حضارة وتراث هذا البلد الذى حباه المؤرخ اليوناني
ديديروس حينما قال
"إن مصر هى المهد الأول للآلهة والأرباب" ، وهو نفس الأمر الذى حدا
بتوماس مان أن يري فى مصر ذلك التواصل والتلاحم على مدى الزمن بالنسبة للتواجد الإنسانى والذى تحقق قبل تواجد عالم الماديات، وهو ما يمثل الإحساس الحقيقي الذاتي للإنسان النابع من وحى فكرالأزمان الماضية كميراث جاء إلينا عبر الأديان والرسل وعبر المعارف القادمة إلينا من الشرق والتى تضمنتها الكتب المقدسة: الأفيستا الهندية ، الإسلام ، المانيئية ، والهلينية . وهنا نتوقف عن مواصلة سرد الأحداث الجسام والتى كان علي سيدنا يوسف أن يواجهها بعد عملية إنقاذه من الجب على يد التجار الإسماعيليين، وأخذه إلى مصر وبيعه كخادم لعزيز مصر الملقب بالبوطيفار
(Potiphar)، والذي كان يتلقد منصب أحد كبار موظفى حرس البلاط الفرعونى وقيادته الشخصية كحارس للفرعون ولعلنا لانبالغ في القول بتأثر
"توماس مان" في ثلاثيته بأسلوبه الفريد للآيات القرآنية من سورة يوسف، والتي تحمل جو الأنس والرحمة ولتكون تخفيفاً لآلام رسول الله من تكذيب قومه لرسالته منادياً إياه بألا يحزن وأن ينظر إلي أخيه يوسف، ولما حدث له من شدائد ومحن.
● نعرض في عملنا هذا لقضية مراودة امرأة العزيز ليوسف -عليه السلام- من خلال ثلاثية
توماس مان محل البحث
"يوسف وإخوته" وذلك في إطار اقتراب ذلك العرض أو بعده عما جاء في القرآن الكريم في هذا الشأن.
● نعرض بداية لحياة وموقع امرأة العزيز وموقع خادمها يوسف في المجتمع المصري من خلال عرض
توماس مان في ثلاثيته
"يوسف وإخوته" والتي وصفها
"بامرأة خفيفة الظل ، تتمتع بأناقة وهالة قدسية ، وأخيراً وليس آخراً تبدو في طلعتها كراهبة يقارب جمالها جمال القمر ويرجع منشؤها إلى أسرة عريقة من الأمراء وملوك الأقاليم في مصر الوسطي كانت لهم أملاك شاسعة من الأراضي................".● وفى هذا المحيط يعيش يوسف ويرى ويراقب رفاهية الحياة في منزل سيده وحرمه الذين اشترياه للعمل كخادم لديهما ، وتبدأ خدمة يوسف حينما كان عمره ثمانية عشرعاماً وتستمر إقامته في منزل العزيز لمدة ثلاثة عشرعاماً بداية من شرائه ونهاية بإلقائه في السجن.
● وردت قضية المراودة في القرآن الكريم في الآيات التالية:-
"وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا يا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين" (الآيات حتى 32 من سورة يوسف).●
